خطاب جلالة الملك: دعوة مباشرة لبناء وعي مدني جديد

الوسط

في زمن تتسارع فيه التحولات وتتعقد فيه انتظارات المواطنين، يأتي الخطاب الملكي في افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية، يوم الجمعة 10 أكتوبر 2025، ليعيد ضبط البوصلة، لا من موقع رد الفعل، بل من موقع الفعل المؤسسي الذي يؤطر الرؤية ويمنحها معناها وعمقها الاستراتيجي. فالمتتبع لتفاصيل الخطاب يلمس انتقالا واضحا من لغة التدبير الظرفي إلى منطق الدولة القائدة للتحول، عبر ثلاث ركائز مترابطة: تأطير المواطن والتفاعل معه، وترسيخ العدالة الاجتماعية، وتحقيق الإنصاف المجالي.

من التلقين إلى التفاعل والتأطير الواعي

حين يؤكد جلالة الملك على ضرورة “إعطاء عناية خاصة لتأطير المواطنين، والتعريف بالمبادرات العمومية والقوانين التي تهمهم مباشرة”، فهو لا يدعو إلى مجرد تواصل مؤسساتي، بل إلى بناء وعي مدني جديد يجعل المواطن شريكا لا متفرجا. إنها دعوة إلى القطع مع منطق الإدارة الصامتة، لصالح دولة تشرح وتفسر وتشرك.

الرهان هنا ليس إعلاميا بقدر ما هو ثقافي وسلوكي، لأن أي تحول تنموي لن يكتمل ما لم يتغير المنطق الذي تدار به الشأن العام. ولهذا شدد الخطاب على ضرورة “تغيير العقليات وترسيخ ثقافة النتائج”، وهي إشارة تحمل في طياتها نقدا ضمنيا للبيروقراطية التقليدية التي تغرق الفعل العمومي في طقوس الإجراءات وتغيب روح الفعالية والمساءلة.

العدالة الاجتماعية… من شعار إلى التزام بنيوي

حديث جلالة الملك عن كون “العدالة الاجتماعية ومحاربة الفوارق المجالية ليست مجرد شعار فارغ أو أولوية مرحلية”، يختزل التحول الفلسفي في مقاربة الدولة للتنمية. فالمسألة لم تعد مجرد هدف قطاعي أو بند في برنامج حكومي، بل توجه استراتيجي يحكم كل السياسات العمومية.

الخطاب هنا يربط بذكاء بين العدالة والمردودية، بين الإنصاف والفعالية، ليؤسس لما يمكن تسميته بـالمواطنة المنتجة، تلك التي تستفيد من ثمار التنمية وتسهم في صنعها في الآن ذاته.

ولعل الأجمل في هذا التصور أنه لا يفصل بين الاجتماعي والاقتصادي، بل يضعهما في خدمة مشروع واحد، مغرب متضامن صاعد، يقاس تقدمه لا بما تحقق في المركز، بل بما تغير في الأطراف.

العدالة المجالية… حين تنزل التنمية من برجها العاجي

القوة الكبرى في الخطاب الملكي تتجلى في وضوح الرؤية الترابية. فحين يشير الملك إلى ضرورة “إعادة النظر في تنمية المناطق الجبلية وتوسيع نطاق المراكز القروية الناشئة”، فهو لا يعلن برنامجا جديدا بقدر ما يرسخ فلسفة متجددة للتنمية، قوامها احترام الخصوصيات الجغرافية والاجتماعية.

إنها مقاربة تقوم على الإنصات للهامش، ليس بعين الشفقة، بل بعين التخطيط. فالمناطق الجبلية والعالم القروي لم تعد مناطق “عجز” بل فضاءات إمكان تحتاج فقط إلى سياسات مندمجة وقيادات محلية مؤهلة.

بهذا المعنى، تتحول التنمية من مشروع نخبوي يدار من المركز إلى دينامية مجتمعية تشاركية تنطلق من القاعدة إلى القمة، وتعيد توزيع حضور الدولة في المجال على نحو أكثر عدلا وفعالية.

الخطاب الملكي هذه المرة لم يكتف بتشخيص الأعطاب، بل وضع اليد على جوهر الداء: الخلل في الثقافة التدبيرية وفي علاقة المواطن بالمؤسسة. وهو بذلك يفتح أفقا جديدا للتنمية، يزاوج بين الفعل الاقتصادي والإنصاف الاجتماعي، ويعيد للسياسة معناها النبيل كأداة لخدمة المواطن.

إنه خطاب يذكرنا بأن بناء المستقبل لا يتم بالشعارات، بل بالجرأة على تغيير الذهنيات، وتجديد أساليب العمل، واستحضار روح المسؤولية المشتركة.

وهنا تحديدا، يثبت الملك أنه لا يتحدث بلغة السلطة فحسب، بل بلغة الدولة في أسمى معانيها، الدولة التي تصغي، وتصلح، وتنجز.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *