الإعلام العمومي عاريا..اعتراف بالفشل أمام إفريقيا!
الوسط
يعيش الإعلام العمومي المغربي اليوم واحدة من أكثر لحظاته حرجًا، لا لأنه يواجه حدثًا عاديًا، بل لأنه يقف عاريًا أمام اختبار قاري بحجم كأس إفريقيا، في لحظة كان يُفترض أن يكون فيها في ذروة الجاهزية والانسجام. فالقرار المفاجئ بإسناد التغطية الرسمية للقناة “الأولى” بدل القناة “الرياضية”، بذريعة محدودية الموارد البشرية، لم يكن إجراءً تقنيًا عابرًا، بل اعترافًا صريحًا بفشل منظومة كاملة، وانكشافًا مدويًا لهشاشة بنية ظلّت لسنوات تُقدَّم كواجهة للإعلام العمومي.
ضحايا قيادة فاشلة!
هذا الخلل لم يسقط من السماء، ولم يظهر فجأة.
ما نراه اليوم هو حصيلة منطقية لمسار طويل من سوء التدبير، وغياب الرؤية، وتراكم اختيارات خاطئة في مؤسسة إعلامية وطنية كان يُفترض أن تكون رأس الحربة في تسويق صورة المغرب قارّيًا ودوليًا. فالقناة الرياضية لم تعجز بين ليلة وضحاها عن أداء وظيفتها، بل جرى إنهاكها تدريجيًا، وتجفيف كفاءاتها، وإفراغها من أي مشروع واضح، إلى أن وصلت إلى لحظة العجز الكامل وكانت المؤشرات واضحة لمن أراد أن رأى بث افتتاح المركب الرياضي الأمير مولاي عبد الله، وهو صرح بمعايير عالمية، جاء النقل التلفزي في مستوى متواضع لا يليق حتى بمباراة محلية عادية. إخراج مرتبك، كاميرات بلا رؤية، وصورة بلا روح.
ثم جاءت واقعة “كارتة البلاطو التحليلي” لتختزل الأزمة في مشهد واحد: طاولة مقصف، كراسٍ في حالة شرود، وديكور يثير الشفقة أكثر مما يثير النقاش. لحظة صادمة كشفت أن الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، بكل تاريخها، لم تعد قادرة حتى على احترام عقل المشاهد،
وسجل العثرات لا يقف عند هذا الحد. فزلة التغطية المباشرة لاستقبال المنتخب المغربي بعد إنجازه التاريخي في مونديال قطر، حين بلغ أحد أضلاع المربع الذهبي، كانت صادمة بكل المقاييس. ثم جاءت التغطيات البئيسة لاستقبال المنتخب المغربي المتوج بكأس العالم لأقل من عشرين سنة، في مشهد يكاد يكون مهينًا لإنجاز وطني كبير. ودون أن ننسى الضعف البيّن في مواكبة الانتصار المغربي في معركته الأولى من أجل السيادة الكاملة على أراضيه، وهو حدث سيادي من العيار الثقيل لم يجد صداه الإعلامي الذي يليق به.
مهندس الإخفاقات في الإعلام العمومي المغربي!
غير أن جوهر الأزمة لا يكمن في الصورة وحدها، بل في القيادة. فمنذ تولي السيد فيصل العرائشي زمام المسؤولية، لم يسجل الإعلام العمومي أي قفزة نوعية تُذكر، بل راكم إخفاقات متتالية طالت كل المؤسسات التي مرّ منها أو أشرف عليها. الرجل، وبشكل يثير الاستغراب، نجح في إفشال كل الأوراش التي أُسندت إليه، رغم ما توفر له من دعم وميزانيات وثقة مؤسساتية،انطلاقا ب “دوزيم” التي كانت أولى الضحايا حين ترأس قطب الإعلام العمومي. قناة كانت، في زمن قريب، فضاءً للتحديث والجرأة والتنوع، تحولت إلى شاشة باهتة، فاقدة للروح والهوية. انكمش إنتاجها، و تلاشت شخصيتها التحريرية، وتراجعت قدرتها على المنافسة، حتى أصبحت مجرد ظل لما كانت عليه. مرورا ب “ميدي1”، التي شكّلت يومًا ما نموذجًا لإعلام مغاربي-متوسطي حديث، فقد دخلت بدورها مرحلة ارتباك حاد: مشروع بلا بوصلة، خط تحريري متقلب، ورؤية ضبابية. بتدخلاته التدبيرية التي ساهمت في إضعافها بدل إنقاذها، إلى أن فقدت الكثير من وهجها ومكانتها، ثم جاء مشروع “الهولدينغ السمعي البصري”، الذي قُدِّم كحل استراتيجي لإعادة هيكلة الإعلام العمومي وتوحيد جهوده. مشروع وُلد ميتًا: لا تصور، لا هيكلة، لا إرادة. تحوّل في عهد العرائشي إلى مجرد عنوان أنيق على ورق، وانتهى قبل أن يبدأ، في واحدة من أكبر فرص الإصلاح الضائعة.
حصيلة مخجلة
من هنا، يصبح التساؤل مشروعًا بل واجبًا: ماذا أضاف الرئيس المدير العام للشركة الوطنية للإعلام السمعي البصري إلى هذا القطاع؟ ما هي الحصيلة الملموسة غير لغة البلاغات والتبريرات؟ الواقع يقول إن الجودة المردودة تراجعت بشكل مقلق، وإن ما يُقدَّم اليوم على شاشات وإذاعات الإعلام العمومي لا يعكس لا حجم التحولات التي يعرفها العصر، ولا حجم الرهانات التي وُضع من أجلها هذا المرفق الحيوي، لقد ترسّخ، في عهده، منطق احتكار بعض الشركات لطلبات العروض، في مشهد يقتل المنافسة، ويُقصي الكفاءات، ويُعيد إنتاج نفس الأسماء ونفس الرداءة. وبالتوازي مع ذلك، استمر العمل بمقررات مشتتة، حيث تغرّد كل إذاعة وكل قناة وكل مديرية خارج أي تصور جامع، في غياب تام لقيادة موحِّدة ورؤية تحريرية وإنتاجية واضحة. مؤسسة بحجم الشركة الوطنية تحولت إلى جزر معزولة، بلا تنسيق، بلا انسجام، وبلا بوصلة.
دون بوصلة
الأدهى من ذلك هو الغياب شبه التام للأطقم الإدارية والمهنية ذات الدراية والكفاءة. لا تخطيط استراتيجي، لا استثمار حقيقي في الموارد البشرية، ولا مواكبة للتحولات الرقمية والتكنولوجية التي غيّرت وجه الإعلام في العالم. مستوى الإنتاج ظل حبيس قوالب متجاوزة، لا تخاطب جمهور اليوم، ولا تفهم إيقاعه، ولا تحترم ذكاءه، وكأن الزمن توقف داخل هذه المؤسسة.
إخفاقات فيصل العرائشي لم تتوقف عند الإعلام. على المستوى الرياضي، لم تحقق اللجنة الأولمبية التي يرأسها أي نتائج تُذكر، وتعثرت في محطات دولية وقارية عديدة، حتى بات الحضور المغربي أقرب إلى المشاركة الرمزية منه إلى التنافس الحقيقي. أما جامعة التنس، التي كانت في ما مضى ذات إشعاع عالمي، وقدّمت أسماء لامعة مثل العيناوي والرازي والعلمي، فقد دخلت في عهده مرحلة تراجع مقلقة، أشبه بموت بطيء لرياضة فقدت قدرتها على إنتاج الأبطال، هذه ليست هفوات معزولة ولا زلات ظرفية، بل سلسلة انتكاسات متتالية. والأخطر أنها تتكرر بنفس المنطق، وبنفس النتائج، وبنفس الغياب التام للمحاسبة. وهنا يفرض السؤال نفسه بإلحاح: من يحمي فيصل العرائشي؟ من أين يستمد هذه المناعة الغريبة ضد التقييم والتمحيص والمساءلة؟ ولماذا ظل انتقاده، لسنوات، مجرد خط في الرمل، لا يترك أثرًا، ولا يفضي إلى أي تصحيح؟ لقد ألفنا إخفاقاته إلى درجة صرنا نفشل نحن أيضًا في ابتكار صيغ جديدة لانتقادها. جُرِّبت كل المقاربات: الموضوعية، التحليلية، المقارنة، وحتى التخيلية. كلها باءت بالفشل. وكأننا أمام قدر لا يُردّ، ومسار لا يتغير مهما اشتغلنا عليه، غير أن أخطر ما في هذا الوضع ليس الفشل ذاته، بل التعايش معه، وتطبيعه، والاستسلام له. لأن الصمت لم يعد حيادًا، بل صار تواطؤًا، والاستمرار في نفس النهج لم يعد استقرارًا، بل إمعانًا في الانحدار. وما لم يُفتح نقاش شجاع وجدي حول حصيلة هذه القيادة، فإن الإعلام العمومي، ومعه قطاعات الرياضة والثقافة، سيظل يدور في حلقة مفرغة، تُراكم الخيبات، وتُبدد الإمكانات، وتحوّل الفشل إلى قدرٍ دائم.



